المقدمة
تكملة الوصايا العشر
الوصية الخامسة: النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا
بالحق:
لقد جاء النهي عن هذه المنكرات الواردة في الآية متوالياً
ومتتابعاً ؛ لأن كلاً منها جريمة قتل من نوع ما، بل إنها جرائم قتل في الحقيقة.
فالجريمة الأولى: الشرك بالله فهي قتل للفطرة.
والثانية: قتل الأولاد وهي تحطيم للأسرة.
والثالثة: الزنا جريمة قتل للجماعة.
والرابعة: جريمة قتل للنفس المفردة.
فلا يجوز إذاً قتل النفس التي حرم الله قتلها في حال من
الأحوال، إلا في حال فعلها لشيء يوجب قتلها، فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم عن
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ۖ: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني
رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق
للجماعة"[44] ؛ وذلك لأن الإسلام ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بنيان بناه
الله تعالى، فلا يحق لأحد أن يهدمه إلا بالحق، وبذلك يقرر الإسلام عصمة الدم
الإنساني، ويعتبر من اعتدى على نفس واحدة فكأنما اعتدى على الناس جميعاً، قال
تعالى: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ
قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا"[45].
وبهذه الأوامر والنواهي: تصان الدماء، وتحترم الأعراض،
ويسود الأمان والاطمئنان بين الناس فـ"كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله
وعرضه"، "والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً".
ومن محاسن هذه الشريعة أن اعتبرت المحافظة على الضروريات
الخمس: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ النسل والعرض، حفظ العقل، حفظ المال، فهذه
الأمور قد تعين صيانتها ويحرم المساس بها.
ويأتي في ختام هذه الوصايا الخمس قول الله تعالى:
"ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، وهذا التعقيب يجيء
وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله ربطاً للأوامر والنواهي بهذه
السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس وعقولهم: "إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُِوْلِي النُّهَى"[46].
الوصية السادسة: "وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ
إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ".
تصدرت الآية الثانية والخمسين بعد المائة من السورة نفسها،
قال الله تعالى: "وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ
أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"[47].
لقد شاء الله تبارك وتعالى واقتضت حكمته أن يأتي هذا الدين
الخاتم على يد يتيم يكون هو النبي الخاتم، هذا اليتيم الكريم قد عهد الله إليه
بأشرف مهمة في الوجود عندما شرفه بإبلاغ الرسالة إلى الناس كافة، وجعل من آداب هذا
الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي منه هذا التوجيه الوارد
في الآية.
واليتيم ضعيف في الجماعة بفقده الوالد الحاني والمربي، ومن
ثم تقع مسؤولية حمايته وكفالته على المجتمع المسلم، على أساس التكافل الاجتماعي
الذي جعلته الشريعة قاعدة نظامه الاجتماعي.
ولقد كان اليتيم يعاني من الضياع والتشرد والاستغلال في
المجتمع الجاهلي، حتى جاء دين الإسلام فأنقذه من هذا الضياع ورتب له حقوقاً يتعين
صيانتها، ومن حقوقه حفظ أمواله وتنميتها، وعدم قربانها إلا بما يصلحها، فعلى من
يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم ؛ حتى يسلمه له
كاملاً نامياً، وقوله تعالى: "حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"[48] ليس غاية
للنهي، إذ ليس المعنى إذا بلغ اليتيم سن الرشد فاقربوا ماله، إنما المعنى أنهاكم –
أيها الأولياء والأوصياء – عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالطريقة التي هي أنفع
له، وعليكم أن تستمروا على ذلك حتى يبلغ اليتيم رشده، فإذ بلغ رشده فسلموا إليه
ماله ليتصرف فيه التصرف السليم.
فالنهي في الآية ليس عن أكل مال اليتيم، بل عن مجرد القرب
منه، وفي ظل قاعدة التكافل الوارفة الظلال، عني الإسلام باليتيم وأمواله ؛ فدعانا
إلى حسن استثمار أموال اليتيم للإنفاق من عائدها عليه، قال تعالى:
"وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً
مَعْرُوفًا"[49]، وقال ۖ: "من ولي يتيماً له مال فليتجر
فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة"[50].
ويتعين حسن تربية اليتيم وتعليمه وتدريبه على إدارة أمواله
قبل دفعها إليه، قال تعالى: "وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ
كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا"[51]. فعلى الولي أن يسلم المال
لليتيم نامياً كاملاً عند بلوغه أشده، واكتمال قوته البدنية والعقلية ؛ ليكون
قادراً على حفظ ماله، ويحسن القيام عليه، وبذلك يكون اليتيم قد استوفى حقه، وحصل
على ماله كاملاً، مع ما تحقق له من الكسب والربح نتيجة حسن تصرف الولي وقيامه على
المال بما يصلحه، وبهذا التصرف الحكيم، لا يكون اليتيم هو من فقد أبويه أو أحدهما
في المجتمع المسلم الرشيد ؛ لأن المجتمع الإيماني، اليتيم فيه مكفول الحق، فقد
أباه فكان له من المؤمنين آباء، وفقد أمه فكان له من المؤمنات أمهات.
إنما اليتيم من لم يحظ بكفالة أبيه، وينعم برعايته، ويستفيد
من مصاحبته والحوار معه، ولم ينعم بحنان أمه وشفقتها وعطفها:
ليس اليتيم من انتهى أبواه
من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أما تخلت أو أباً مشغولا
(أمير الشعراء أحمد شوقي)
وقد أولت شريعة الإسلام عنايتها بالأيتام، من تدبير شؤونهم،
ورعاية مصالحهم، وليس أدل على ذلك مما ذكره الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز،
حيث تحدث عن اليتيم في ثلاثة وعشرين موضعاً في القرآن الكريم[52]، كلها تدعوا إلى
رعايتهم، والحفاظ على أموالهم، والسهر على مصالحهم، بل وتشدد النكير على من تسول
له نفسه أن يعتدي على أموالهم، أو يأكل شيئاً من حقوقهم، قال تعالى: "إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"[53].
الوصية السابعة: "وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا".
وهذه المبادلات التجارية بين الناس، في حدود الطاقة، وحسن
التصرف والإنصاف، وسياق الوصايا في الآيات يربطها بالعقيدة، والموصي والآمر هو
الله جل وعلا، والمعنى: وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم،
وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون، أو لغيركم فيما تبيعون، فهو أمر
من الله تعالى لعباده بإقامة العدل حال التعامل: "وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا
كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ"[54].
فيتعين أن يعطى صاحب الحق حقه من غير نقص، ويأخذ صاحب الحق
حقه من غير زيادة. وهذه الوصية تمثل مبدأ العدل في التعامل، والتعادل بين صاحب
الحق ومن له الحق، وحال الناس لا تستقيم إلا بالتعامل وتبادل المنافع.
والكيل والوزن هما من أظهر الوسائل في ذلك، فلابد أن يكونا
منضبطين وقائمين على القسط والعدل، وقوله تعالى: "لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا
إِلاَّ وُسْعَهَا"، جاءت عقب الأمر بايفاء الكيل والوزن بالعدل، ولكن بقدر
الطاقة للدلالة على الترخيص فيما خرج عن الوسع والقدرة ؛ لبيان قاعدة من قواعد
الإسلام الرافعة للحرج ؛ وذلك لأن التبادل التجاري لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل
من المساواة والتبادل، بل الشأن فيه أن يقبل اليسير من الغبن في جانب البائع، أو
في جانب المشتري، وهذه الوصية تجمع في ثناياها بين الدقة والسماحة، وبين الضبط
ورفع الحرج.
..........يتبع
تكملة الوصايا العشر
الوصية الخامسة: النهي عن قتل النفس التي حرم الله إلا
بالحق:
لقد جاء النهي عن هذه المنكرات الواردة في الآية متوالياً
ومتتابعاً ؛ لأن كلاً منها جريمة قتل من نوع ما، بل إنها جرائم قتل في الحقيقة.
فالجريمة الأولى: الشرك بالله فهي قتل للفطرة.
والثانية: قتل الأولاد وهي تحطيم للأسرة.
والثالثة: الزنا جريمة قتل للجماعة.
والرابعة: جريمة قتل للنفس المفردة.
فلا يجوز إذاً قتل النفس التي حرم الله قتلها في حال من
الأحوال، إلا في حال فعلها لشيء يوجب قتلها، فقد أخرج الإمامان البخاري ومسلم عن
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ۖ: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني
رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق
للجماعة"[44] ؛ وذلك لأن الإسلام ينظر إلى وجود الإنسان على أنه بنيان بناه
الله تعالى، فلا يحق لأحد أن يهدمه إلا بالحق، وبذلك يقرر الإسلام عصمة الدم
الإنساني، ويعتبر من اعتدى على نفس واحدة فكأنما اعتدى على الناس جميعاً، قال
تعالى: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ
قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا"[45].
وبهذه الأوامر والنواهي: تصان الدماء، وتحترم الأعراض،
ويسود الأمان والاطمئنان بين الناس فـ"كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله
وعرضه"، "والمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً".
ومن محاسن هذه الشريعة أن اعتبرت المحافظة على الضروريات
الخمس: حفظ الدين، حفظ النفس، حفظ النسل والعرض، حفظ العقل، حفظ المال، فهذه
الأمور قد تعين صيانتها ويحرم المساس بها.
ويأتي في ختام هذه الوصايا الخمس قول الله تعالى:
"ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ"، وهذا التعقيب يجيء
وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله ربطاً للأوامر والنواهي بهذه
السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس وعقولهم: "إِنَّ فِي
ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُِوْلِي النُّهَى"[46].
الوصية السادسة: "وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ
إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ".
تصدرت الآية الثانية والخمسين بعد المائة من السورة نفسها،
قال الله تعالى: "وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ
أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"[47].
لقد شاء الله تبارك وتعالى واقتضت حكمته أن يأتي هذا الدين
الخاتم على يد يتيم يكون هو النبي الخاتم، هذا اليتيم الكريم قد عهد الله إليه
بأشرف مهمة في الوجود عندما شرفه بإبلاغ الرسالة إلى الناس كافة، وجعل من آداب هذا
الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي منه هذا التوجيه الوارد
في الآية.
واليتيم ضعيف في الجماعة بفقده الوالد الحاني والمربي، ومن
ثم تقع مسؤولية حمايته وكفالته على المجتمع المسلم، على أساس التكافل الاجتماعي
الذي جعلته الشريعة قاعدة نظامه الاجتماعي.
ولقد كان اليتيم يعاني من الضياع والتشرد والاستغلال في
المجتمع الجاهلي، حتى جاء دين الإسلام فأنقذه من هذا الضياع ورتب له حقوقاً يتعين
صيانتها، ومن حقوقه حفظ أمواله وتنميتها، وعدم قربانها إلا بما يصلحها، فعلى من
يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم ؛ حتى يسلمه له
كاملاً نامياً، وقوله تعالى: "حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ"[48] ليس غاية
للنهي، إذ ليس المعنى إذا بلغ اليتيم سن الرشد فاقربوا ماله، إنما المعنى أنهاكم –
أيها الأولياء والأوصياء – عن الاقتراب من مال اليتيم إلا بالطريقة التي هي أنفع
له، وعليكم أن تستمروا على ذلك حتى يبلغ اليتيم رشده، فإذ بلغ رشده فسلموا إليه
ماله ليتصرف فيه التصرف السليم.
فالنهي في الآية ليس عن أكل مال اليتيم، بل عن مجرد القرب
منه، وفي ظل قاعدة التكافل الوارفة الظلال، عني الإسلام باليتيم وأمواله ؛ فدعانا
إلى حسن استثمار أموال اليتيم للإنفاق من عائدها عليه، قال تعالى:
"وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً
مَعْرُوفًا"[49]، وقال ۖ: "من ولي يتيماً له مال فليتجر
فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة"[50].
ويتعين حسن تربية اليتيم وتعليمه وتدريبه على إدارة أمواله
قبل دفعها إليه، قال تعالى: "وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ
كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ
بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا"[51]. فعلى الولي أن يسلم المال
لليتيم نامياً كاملاً عند بلوغه أشده، واكتمال قوته البدنية والعقلية ؛ ليكون
قادراً على حفظ ماله، ويحسن القيام عليه، وبذلك يكون اليتيم قد استوفى حقه، وحصل
على ماله كاملاً، مع ما تحقق له من الكسب والربح نتيجة حسن تصرف الولي وقيامه على
المال بما يصلحه، وبهذا التصرف الحكيم، لا يكون اليتيم هو من فقد أبويه أو أحدهما
في المجتمع المسلم الرشيد ؛ لأن المجتمع الإيماني، اليتيم فيه مكفول الحق، فقد
أباه فكان له من المؤمنين آباء، وفقد أمه فكان له من المؤمنات أمهات.
إنما اليتيم من لم يحظ بكفالة أبيه، وينعم برعايته، ويستفيد
من مصاحبته والحوار معه، ولم ينعم بحنان أمه وشفقتها وعطفها:
ليس اليتيم من انتهى أبواه
من هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
أما تخلت أو أباً مشغولا
(أمير الشعراء أحمد شوقي)
وقد أولت شريعة الإسلام عنايتها بالأيتام، من تدبير شؤونهم،
ورعاية مصالحهم، وليس أدل على ذلك مما ذكره الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز،
حيث تحدث عن اليتيم في ثلاثة وعشرين موضعاً في القرآن الكريم[52]، كلها تدعوا إلى
رعايتهم، والحفاظ على أموالهم، والسهر على مصالحهم، بل وتشدد النكير على من تسول
له نفسه أن يعتدي على أموالهم، أو يأكل شيئاً من حقوقهم، قال تعالى: "إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"[53].
الوصية السابعة: "وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ
بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا".
وهذه المبادلات التجارية بين الناس، في حدود الطاقة، وحسن
التصرف والإنصاف، وسياق الوصايا في الآيات يربطها بالعقيدة، والموصي والآمر هو
الله جل وعلا، والمعنى: وأتموا الكيل إذا كلتم للناس أو اكتلتم عليهم لأنفسكم،
وأوفوا الميزان إذا وزنتم لأنفسكم فيما تبتاعون، أو لغيركم فيما تبيعون، فهو أمر
من الله تعالى لعباده بإقامة العدل حال التعامل: "وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا
كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ"[54].
فيتعين أن يعطى صاحب الحق حقه من غير نقص، ويأخذ صاحب الحق
حقه من غير زيادة. وهذه الوصية تمثل مبدأ العدل في التعامل، والتعادل بين صاحب
الحق ومن له الحق، وحال الناس لا تستقيم إلا بالتعامل وتبادل المنافع.
والكيل والوزن هما من أظهر الوسائل في ذلك، فلابد أن يكونا
منضبطين وقائمين على القسط والعدل، وقوله تعالى: "لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا
إِلاَّ وُسْعَهَا"، جاءت عقب الأمر بايفاء الكيل والوزن بالعدل، ولكن بقدر
الطاقة للدلالة على الترخيص فيما خرج عن الوسع والقدرة ؛ لبيان قاعدة من قواعد
الإسلام الرافعة للحرج ؛ وذلك لأن التبادل التجاري لا يمكن أن يتحقق على وجه كامل
من المساواة والتبادل، بل الشأن فيه أن يقبل اليسير من الغبن في جانب البائع، أو
في جانب المشتري، وهذه الوصية تجمع في ثناياها بين الدقة والسماحة، وبين الضبط
ورفع الحرج.
..........يتبع
السبت مايو 07, 2016 12:11 pm من طرف علواني أحمد
» القصر المهجور
السبت مايو 07, 2016 12:09 pm من طرف علواني أحمد
» احتفلنا فهل يحتفلون
الأربعاء سبتمبر 02, 2015 12:57 am من طرف علواني أحمد
» سؤال في النحو
الجمعة أبريل 04, 2014 1:34 pm من طرف المشرف
» مجموعة من المصاحف الكاملة لعدد من القراء بروابط تحميل مباشرة
الثلاثاء نوفمبر 27, 2012 6:26 pm من طرف aboomar
» انصر نبيك يامسلم
الإثنين نوفمبر 19, 2012 2:13 pm من طرف أهل تارمونت
» برنامج حجب المواقع الاباحية مع الشرح (منقول)
الجمعة أغسطس 10, 2012 1:47 am من طرف allal.ali6
» الدين النصيحة
السبت يوليو 28, 2012 9:32 pm من طرف aboomar
» البصيرة في حال المدعوين وكيفية دعوتهم
السبت يوليو 28, 2012 9:27 pm من طرف aboomar