الخطبة الأولى
أما بعد: ايها المسلمون
إننا نقف اليوم بين قنطرتين مودعين ومستقبلين، مودعين موسماً كاملاً
أودعنا فيه ماشاء الله أن نودع، فخزائن بعضنا ملأى بما هو له، وخزائن بعضنا ملأى
بما هو عليه، فلا إله إلا الله، يخلق ما يشاء ويختار، وما ربك بظلام للعبيد .
أيها المسلمون: إن هذه الجمعة هي أول
جمعة في هذا العام، ، وصدق الله العظيم، ومن أصدق من الله قيلاً: يقلب
الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، قال
الله تعالى: وتلك
الأيام نداولها بين الناس.
وهذا السير الحثيث يباعد عن الدنيا ويقرب إلى الآخرة، يباعد من دار
العمل ويقرب من دار الجزاء. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ارتحلت الدنيا
مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولاتكونوا
من أبناء الدنيا. فإن اليوم عمل و لاحساب، وغداً حساب ولا عمل) أخرجه البخاري[1].
نسير إلى الآجال في كل لحظة
وأعمارنا تطوى وهنَّ مراحل
ترحل من الدنيا بزاد من التقى
فعمرك أيـام وهن قلائــل
معاشر المسلمين: ، فها هو عام هجري يطوي بساطه، ويقوض خيامه، ويشد
رحاله ((وكل الناس يغدو، فبائع نفسه، فمعتقها أو
موبقها)) [2]،
عام كامل، تصرمت أيامه وتفرقت أوصاله، وقد حوى بين جنبيه حِكماً وعبراً، وأحداثاً
وعظات، فلا إله إلا الله، كم شقي فيه من أناس، ولا إله إلا الله كم سعد فيه من
آخرين؟ لا إله إلا الله كم من طفل قد تيتم، وكم من امرأة قد ترملت، وكم من متأهل
قد تأيم؟ لا إله إلا الله كم من مريض قوم قد تعافى، وسليم قوم في التراب قد توارى،
لا إله إلا الله كم من أهل بيت يشيعون ميتهم، وآخرون يزفون عروسهم، لا إله إلا
الله دار تفرح بمولود، وأخرى تعزى بمفقود، لا إله إلا الله عناق وعبرات من شوق
اللقاء، وعبرات تهلّ من لوعة الفراق، لا إله إلا الله آلام تنقلب أفراحاً، وأفراح
تنقلب أتراحاً، أيام تمر على أصحابها كالأعوام، وأعوام تمر على أصحابها
كالأيام.
أيها المسلمون: لقد انتهى عام 1421هـ، بماذا انتهى؟ حضر فلان وغاب
فلان، مرض فلان، ودفن فلان، وهكذا دواليك، تغيَّر أحوال، وتبدل أشخاص، فسبحان الله
ما أحكم تدبيره، يعز من يشاء ويذل من يشاء، يعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء
بعدله، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أمور تترى، تزيد العاقل عظة وعبرة، وتنبه الجاهل
من سبات الغفلة، ومن لم يعتبر بما يجري حوله، فقد غبن نفسه.
معاشر المسلمين: تختلف رغبات الناس ويتغاير شعورهم عند انسلاخ العام،
فمنهم من يفرح، ومنهم من يحزن، ومنهم من يكون بين ذلك سبيلاً. فالسجين يفرح
بانسلاخ عامه؛ لأن ذلك مما يقرّب موعد خروجه وفرجه، فهو يعد الليالي والأيام على
أحر من الجمر، وقبلها تمر عليه الشهور والأعوام دون أن يشعر بها فكأنه يحاكي قول القائل:
أعد الليالي ليلة بعد ليلة
وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
وآخر يفرح بانقضاء العام، ليقبض أجرة مساكن وممتلكات أجّرها حتى يستثمر
ريعها وأرباحها. وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية وظيفية: إلى غير ذلك من
المقاصد التي تفتقر إلى المقصد الأسمى وهو المقصد الأخروي، فالفرح بقطع الأيام
والأعوام دون اعتبار وحساب لما كان فيها ويكون بعدها هو من البيع المغبون.
إنا لنفرح بالأيام نقطعهــــا
وكل يوم مضـى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران
في العمـل
فالعاقل من اتعظ بأمسه، واجتهد في يومه، واستعد لغده.
ومن أعظم الحكم في تعاقب السنين وتغيّر الأحوال والأشخاص أن ذلك دليل
على كمال عظمة الله تعالى وقيوميته. فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده
شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء كل
من عليها فإن ويبقى
وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
عباد الله: إن تعاقب الشهور والأعوام على العبد، قد يكون نعمة له أو نقمة عليه، فطول العمر ليس نعمة بحد ذاته، فإذا طال
عمر العبد ولم يعمره بالخير فإنما هو يستكثر من حجج الله تعالى عليه، أخرج الإمام
أحمد والترمذي والحاكم عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه أنه قال: قال رسول الله
عليه السلام: ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر
الناس من طال عمره وساء عمله)) [3].
معاشر المسلمين: إن هذا العام الذي ولى مدبراً قد ذهب ظرفه وبقي مظروفه
بما أودع فيه العباد من الأعمال، وسيرى كل عامل عمله يوم
تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً
بعيداً.
سيرى كل عامل عمله ليهلك
من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة، وما
ربك بظلام للعبيد.الخطبة الثانية
الحمد لله وبعد
إن هذه السنة حين تنصرم من أعمارنا تذكرنا بحدث جلل حدث لرسولنا عليه الصلاة والسلام, يذكرنا به
اسم
هذه السنة, اسم هذه الأعوام التي تتوالى علينا هي أعوام
هجرية نسبة إلى الهجرة, نسبةً إلى الكفاح, نسبةً إلى
النصر الذي حققه الرسول , العام حين ينصرم
نتذكر الرسول عليه الصلاة والسلام كيف وقد خرج من مكة خرج فائزًا منتصرًا والظاهر أنه خرج عليه الصلاة والسلام فارًا بدينه, لا والله ليس هذا الفرار بالدين من الذلة والصغار, ليس هذا الفرار بالدين
من
المهانة, إنما هو من العزة والرفعة لهذا قال الله عز وجل: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين
إذا هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فسمّاه الله عز وجل
نصرًا, حين يبدو في الأنظار خروجًا وفرارًا قال تعالى: إلا تنصروه أي: إن
أحجمتم عن نصرة هذه الدين وانشغلتم بالدنيا ولم تقدموا على الجهاد ولم يكن الدين في حياتكم له وزنًا, إلا تنصروه, إلا تنصروا محمد حيًا وميتًا فنصره
عليه الصلاة والسلام باق إلى يوم الدين, فإن موته عليه الصلاة والسلام
لا يعني توقف نصره, إلا تنصروه أي: لو تخادلتم جميعًا عن نصرته فقد نصره الله, متى؟
متى كان نصر الله للنبي؟ لا يقول الله تعالى يوم بدر, لا يقول الله تعالى يوم فتح
مكة, إنما يقول الله تعالى: إذ هما في الغار حين كان النبي عليه
الصلاة والسلام في الغار في غار ثور إذ
يقول صاحبه لا تحزن إن الله معنا ورد في الصحيح عنه لمّا دخلا في الغار
وجاءت صناديد قريش تنظر إلى الغار: قال أبو بكر: "لو نظر أحدهم تحت قدمه
لرآنا" فقال : ((ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما)) إنها الثقة بالله تعالى, ماذا تظن اثنين الله
ثالثهما, رب العباد معهما, إن الأمير أو
السلطان في الدنيا لو مال بكنفه على أحد من الناس لهاب الناس ذلك الذي مِيل إليه, لأقام الناس وزنًا لهذا الذي مِيل إليه, فكيف برب العباد؟ فكيف بالحيي الذي لا يموت إذا رضي بعبد من عبيده لذا كان معه
معية
نصر ومؤازرة ومعاونة ((ما ظنك باثنين
الله ثالثهما)), إذ
يقول لصاحبه لا تحزن تثبيتًا لصاحبه يقول
للصديق: إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه, أنزل الله الطمأنينة في قلبهما وأيده
بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا يا سبحان الله وكأن العمر قد انقضى وكأن الأيام قد تداولت, فترى أنفسنا
أمام
نصر مؤزر, فترى أنفسنا وكأن كلمة الذين كفروا السفلى ونرى
أنفسنا وكأننا في يوم فتح مكة يدخل الرسول عليه الصلاة
والسلام مكة خافظًا رأسه متواضعًا بالنصر الذي
أكرمه الله تعالى به, يدخل فترى رأي العين كلمة
الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا, مقدمة هذا النصر كان هناك
في غار ثور في طريق هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام, وأبو بكر فزعٌ خائف والرسول يقول له: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما)).
هذا هو طريق النصر الذي سلكه الرسول عليه الصلاة والسلام, وينبغي ونحن
نستقبل مثل هذا العام أن نذكر هذا الكفاح الذي كافحه وأن ننصر دينه وإلا
كما قال تعالى: إلا
تنصروه فقد نصره الله, يا
أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأت الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على
المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم ذلك فضل
الله يؤتيه من يشاء.
فنسأل الله تعالى أن يؤتينا من فضله وأن يجعلنا من الناصرين لدينه,
وعلينا أيضًا إخوة الإيمان أن نستقبل هذه السنة بالأعمال الصالحة إذا كان يستقبل هذا الشهر شهر
الله الحرام بالصيام, كان يستقبله بطاعة الأعمال كما صح عنه عليه الصلاة والسلام
في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله سئل: أي الصلاة أفضل
بعد المكتوبة, وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان فقال : ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في
جوف الليل, وأفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)). والحديث
عند مسلم وأبي داود.
السبت مايو 07, 2016 12:11 pm من طرف علواني أحمد
» القصر المهجور
السبت مايو 07, 2016 12:09 pm من طرف علواني أحمد
» احتفلنا فهل يحتفلون
الأربعاء سبتمبر 02, 2015 12:57 am من طرف علواني أحمد
» سؤال في النحو
الجمعة أبريل 04, 2014 1:34 pm من طرف المشرف
» مجموعة من المصاحف الكاملة لعدد من القراء بروابط تحميل مباشرة
الثلاثاء نوفمبر 27, 2012 6:26 pm من طرف aboomar
» انصر نبيك يامسلم
الإثنين نوفمبر 19, 2012 2:13 pm من طرف أهل تارمونت
» برنامج حجب المواقع الاباحية مع الشرح (منقول)
الجمعة أغسطس 10, 2012 1:47 am من طرف allal.ali6
» الدين النصيحة
السبت يوليو 28, 2012 9:32 pm من طرف aboomar
» البصيرة في حال المدعوين وكيفية دعوتهم
السبت يوليو 28, 2012 9:27 pm من طرف aboomar